حين أطلق جون كابات-زين (Kabat-Zinn, 1990) نتائج اهتماماته في استخدام حكمة العقل والدماغ في وجه الضغوط والألم والمرض، تزايدت الاهتمامات العلمية في فهم وتفسير دور اليقظة في تقليل الضغوط حتى أصبح هناك مفتاح مفاهيمي يُسمّى بـ “تقليل الضغوط المعتمد على اليقظة.” ومن الجدير بالذكر قبل الخوض في اليقظة ما قدّمته مجلة “يَقِظ” كعينة مجانية تحوي عدّة مقتطفات من محتواها في العامين 2013، 2014. وقد تم الإشارة في المقدمة إلى أن اليقظة ليست اهتمام لحظي فقط، وإنما ظاهرة اجتماعية تحوّلية، وذلك للأسباب الآتية:
- اليقظة متاحة للجميع: بالإضافة إلى أنها سهلة التعلّم لا تتطلب اليقظة من الأفراد تغيير معتقداتهم وإنما تزرع فيهم خصائص إنسانية عالمية بغض النظر عن اختلاف الثقافات.
- اليقظة نمط حياة: يتعدّى مفهوم اليقظة الممارسة العملية، فتقود اليقظة ممارسيها إلى جلب الوعي والعناية إلى أي أمر يقومون به. وبالإضافة إلى أن القليل من اليقظة يجلب فوائد عديدة يبرز أهمها في إبعاد جميع الضغوط الإضافية عن الحاجة.
- اليقظة مدعومة بالدليل والبرهان: هناك العديد من الدلائل والبراهين العلمية والتجريبية التي تُشير إلى الأثر الإيجابي الذي تتركه اليقظة في تحسين الصحة، وزيادة الهناء، ورفع كفاءة العمل، وتوطيد العلاقات.
- اليقظة شعلة الابتكار: في ظل ازدياد تعقيد مناحي الحياة وشكوكها، تقود اليقظة ممارسيها نحو استجابات فعّالة، ومرنة، وقليلة التكلفة لمجابهة المشكلات التي تبدو عنيدة.
كما قدّمت مجلة “يَقِظ” في عددها المجاني ذاته مجموعة من الإحصاءات المقتبسة في عددها المنشور في شهر شباط/فبراير عام 2014 لتُبيّن مدى تحوّل اليقظة لتكون نقلة نوعية وعلى مختلف المستويات، ومنها:
- هناك ما يقارب 20 ألف ممّن أكملوا برنامج تقليل الضغوط المعتمد على اليقظة في عيادة يو ماس (UMass) لتقليل الضغوط وأعداد أخرى لا تُعد ولا تحصى في مواقع أخرى.
- تُقدّر الأبحاث المنشورة حول اليقظة في عام 2012 ما يُعادل 477 بحثاً بعدما لم يكن هناك أي منها عام 1980.
- هناك ما يزيد عن 12 ألف خبير صحة من مختلف الدول في أنحاء العالم ممّن تلقوا تدريباً متخصّصاً حول اليقظة من قبل معهد الواحة (Oasis Institute).
- هناك ما يزيد عن 740 مؤسسة معنية بالتدريب على تقليل الضغوط المعتمد على اليقظة حول العالم.
- هناك ما يزيد عن 80 مؤسسة وشركة تعتمد تدريب موظفيها على اليقظة حول العالم.
- منذ عام 2007، هناك ما يقارب 18 ألف طالب من 53 مدرسة يتدربون على اليقظة في مدارسهم.
مفهوم اليقظة
عرّف شابيرو وزملاؤها (Shapiro et al., 2006) اليقظة في ضوء نموذج اليقظة (IAA) لجون كابات-زين على أنها ثلاث مكونات مترابطة هي “النية” والقصد من وراء الفعل، و”الانتباه” للفعل، و”الاتجاه” وأسلوب القيام بالفعل. وقد أشار كريستوفر جيرمر (Germer, 2013) بناءً على الأدب النفسي والدراسات السابقة، يظهر جليّاً أن تبنّي اليقظة بما فيها من وعي وانتباه يدعو إلى ما هو عكس “تشغيل الطيار الآلي” وعكس “أحلام اليقظة.” قد تقبل اليقظة بأن تذهب بنا أذهاننا إلى تذكّر مفهوماً، أو حدثاً، أو إجراءً، أو حكماً من سياق خبراتنا السابقة، ولكنها تدعونا إلى إعادة توجيه انتباهنا إلى الخبرة الحالية وتقبلها دون شروط (من أجل تخزينها كما هي دون تدخل تحيّزاتنا المعرفية)، كما وأنها تُعيل الاهتمام أيضاً إلى تحقيق الغاية “الآنية” دون إصدار الأحكام. وهذا بالتالي يخرجنا من قفص الاشتراطات بين المثيرات الحسية المعتادة والردود التلقائية التي أصبحت استجابات إجرائية “لا واعية.”
وقد أكّد جيرمر (Germer, 2013) بعدما قام بتكييف ما جاء به براون ورايان (Brown & Ryan, 2003) في مقياس الانتباه والوعي اليقظان أن اليقظة هي عكس القيام بالأمور دون هدف، أو بعثرة الأشياء بدافع اللامبالاة أو الانشغال بأمر آخر، أو عدم الانتباه لأي أمر مزعج حسي أو انفعالي، أو الانحصار بعالم الماضي أو المستقبل، أو نسيان الأماكن و/أو الأشخاص، أو القيام بردود أفعال تلقائية، أو حتى تناول الطعام دون الوعي بعملية الأكل أو استشعار طعمه.. وبذلك تُعرّف لحظات اليقظة على أنها:
- لا مفاهيمية: اليقظة متجسّدة في الوعي الذهني الحدسي وتُستمد من العمليات الفكرية.
- غير لفظية: لا يُمكن تصوير اليقظة في كلمات لأنها تقع في العقل قبل تنشأ الكلمات.
- متمركزة حول الحاضر: اليقظة تتشبع في اللحظات الحالية، واللجوء إلى الأفكار يصرف الأفراد عن اليقظة مؤقتًا.
- لا حُكمية: لا مكان للوعي ما لم يكن هناك رغبة بفعل الأمر الحالي واستشعاره، فأي حكم مسبق يصرف الأفراد عنه.
- تشاركية: اليقظة ذهنية وجسدية حيث ينسجم العقل مع الحواس بصفة تشاركية.
- تحرّرية: اليقظة تُحرّر الأفراد من المعاناة المشروطة التي جاءت إثر عادات ومنظورات سابقة للمثيرات الحسية.
ممارسة اليقظة
من المتعارف عليه أن هنالك أسلوبين رئيسيين لممارسة اليقظة أحدهما رسمي والآخر غير رسمي (Germer, 2013)، ولكن قبل البدء بكيفية ممارسة اليقظة وتطبيق التمارين، يُجدر الإشارة إلى أهمية اعتياد الأفراد على الملاحظة الذاتية والوعي بالإحساسات والانفعالات والأفكار. لذا يُنصح بالبدء بالنشاط الآتي:
نشاط (4-3): الاعتياد على الوعي
اطرح الأسئلة الآتية على نفسك:
- ما الذي أُحس به (ألمسه، أراه، أسمعه، أشتمه، أتذوقه) الآن؟
- ما الذي أشعر به؟
- ما الذي أفكر فيه؟
- ما هو الجزء النشط من وعيي؟
اطرح الأسئلة السابقة على نفسك مراراً وتكراراً وحدّد مدّة زمنية (أسبوع مثلاً)، ثم اكتب فيما لا يقل عن 200 كلمة حول تجربتك ومدى الاختلاف الذي طرأ على وعيك.
أولاً: الممارسة الرسمية
يعود تطبيق اليقظة في الممارسة الرسمية إلى تعويد الأفراد على تركيز الانتباه من خلال تمارين متنوعة أبرزها توجيه الانتباه المركز، والمراقبة المفتوحة وهي اليقظة بحد ذاتها، وبالإضافة إلى استشعار العطف واللطف الذاتيين. وتُعرف مثل هذه التمارين بمجملها باسم “تمارين التأمّل” التي تدعو في جلّها القبول العقلي والانفعالي وجلب الوعي للحياة التي نعيش لحظة بلحظة. وفيما يلي مجموعة من التمارين من الأبسط إلى الأكثر تعقيداً.
نشاط (4-4): تمارين توجيه الانتباه المركز
وجّه تركيزك نحو شيء ما حولك. على سبيل المثال:
- دق جرس! ثم وجّه انتباهك بتركيز على صوت الجرس حتى يتلاشى الصوت تماماً،
- أشعل شمعة! ثم وجّه انتباهك بتركيز على لهب الشمعة المشتعلة حتى تكشف اتجاه نسمة الهواء،
- اقذف حصى صغيرة! ثم وجّه انتباهك بتركيز على الحصى حتى تتوارى عن النظر،
- قص ورقة! ثم وجّه انتباهك بتركيز على انتاج أكبر عدد ممكن من القصاصات على شكل مثلث،
- ضع ورقة رسم غير مُلوّن (زخارف الماندالا أو شكل غير مُلوّن مثلاً)! ثم وجّه انتباهك بتركيز على تلوين الرسم دون الخروج عن الخط،
- تلمّس سطح! ثم وجّه انتباهك بتركيز على ملمس السطح ووصفه ذهنياً،
- اجلب حصى مختلفة الأحجام! ثم وجّه انتباهك بتركيز لترتيب الحصى فوق بعضها بطريقة متّزنة تحميها من الوقوع،
- امسك كرة مطّاطية! ثم وجّه انتباهك بتركيز على قوة العضلات المستخدمة للضغط عليها بأصابعك وإفلاتها،
- انقر بإصبعيك السبابتين! ثم وجّه انتباهك بتركيز على مناطق النقر على جبهتك، أو قدميك، أو يديك،
- امسح جسدك! اجلس جلسة صحية (ليست جلسة استرخاء وليست جلسة تأهب للقيام) ثم وجّه انتباهك بتركيز دون اللمس لاستشعار قدميك على الأرض وجلوسك على الكرسي ونقاط حمل بطنك وظهرك ورأسك،
- تنفّس! ثم وجّه انتباهك بتركيز على الشهيق وبرودته والزفير ودفئه وكذلك مدى عمقهما وسرعتهما مع كل نفس،
- أو قم بأي فعل يتطلب من توجيه انتباهك بتركيز بما يضمن ملاحظتك له دون التشتت بأي مثير حسي آخر…
ملاحظة: إن الطريق لالتماس فائدة التمارين هو مدى تكرارها ومدتها من الناحية الكمية، ومن الناحية النوعية تحويل انتباهك المركز من أفكارك وانفعالاتك المترتبة عن مواقف الحياة عامّة ومن الضاغطة والصادمة خاصّةً إلى إحساساتك الفعلية المترتبة عمّا تقوم به فعلياً. وممّا لا شك فيه أن حيثيات أمور حياتك (في البيت، والعمل، والدراسة، إلخ) أهم بالنسبة إليك لتقوم بتوجيه انتباهك المركز عليها، إلّا هذه التمارين ما هي إلّا من أجل الاعتياد على توجيه الانتباه المركز، من أبرز الأمثلة الأخرى لمثل هذه التمارين تمارين اليوغا التي تتطلب القيام بحركات رياضية متدرجة الصعوبة ممّا يحتاج إلى انتباه مركز لفعلها.
في ضوء تطبيقك لأي تمرين من تمارين نشاط (4-4) السابق، يمكنك توجيه مراقبة مفتوحة لملاحظة نواياك، وأفكارك، وانفعالاتك، وحتى ممارساتك، وذلك من أجل الحصول على الوعي المطلوب من اليقظة بحد ذاتها. ويبدأ تحول الانتباه المركز إلى المراقبة المفتوحة عندما تدعو نفسك إلى ملاحظة ما يشتت انتباهك ويشرد ذهنك. وعندما تُدرك أنك ذهبت بوعيك بصورة لا إرادية إلى أمور أخرى كالتفكير بالأمور والحكم عليها والقلق تجاهها. لذا فإن اليقظة بحد ذاتها تدعوك إلى الوعي بهذا التشتت والشرود اللاإرادي وتقبّله، ولكن يدعوك إلى العودة بوعيك لما تقوم به بأسرع وقت ممكن. لذا يُمكن لتمارين توجيه الانتباه المركز السابقة أن تُصبح تمارين المراقبة المفتوحة (اليقظة بحد ذاتها) ولكن بإضافة جملة “إذا تشتت ذهنك، لا بأس، ولكن عد لوعيك الآن” كتعليمات للوعي بشرود الذهن وجلب الوعي مرة أخرى. ومن أبرز تمارين التأمّل الرسمية ما قدّمته إليشا جولدشتاين (Elisha Goldstein) في ذات العينة مجانية لمجلة “يَقِظ” بعنوان توقف (STOP).
نشاط (4-5): توقف (STOP)
خلال الدراسة أو العمل، طبّق الخطوات الآتية:
- توقف (Stop): توقف عن كل ما تقوم به، وضع كل شيء جانباً.
- واصل التنفس (Take a few deep breaths): لكون التنفس هو ما يُلازمنا طوال حياتنا، يُعد التنفس من أسهل التمارين لممارستها. لذا واصل التنفس ووجّه انتباهك بتركيز على الشهيق وبرودته والزفير ودفئه وكذلك مدى عمقهما وسرعتهما مع كل نفس لمدة دقيقتين أو أكثر.
- قف للملاحظة (Observe): لاحظ أفكارك وتفكّر في مدى صحتها وفائدتها، ولاحظ انفعالاتك وحدّدها، ثم لاحظ جسدك وصحة وضعيته بحركاته أو وضعه الساكن.
- فرصتك للمتابعة (Proceed): تابع حياتك بفعل يدعم ما تقوم به (فمثلاً يمكنك احتساء كوباً من الشاي، التحدث إلى شخص داعم، قم بتمرين تمدّد، وغيره من أي الأمور التي تدعم قيامك بعملك على أكمل وجه).
ملاحظة: هناك الكثير من الأمور التي لها فوائد في جلب الوعي ومضار في تشتيته في آن معاً. ومن هذه الأمور الجوال والمسبحة وغيرها حيث يمكن للجوال جلب الوعي في استخدامه كمنبه للقيام بتمرين توقف مثلاً، ولكنه مصدر للتشتت حين استخدامه أثناء اليام بأي فعل واعٍ بالإضافة إلى مضاره التي تجلب شرود الذهن واستجرار الأفكار والانفعالات والأفعال السلبية التي إن لم تُسبب المزيد من الأفكار والانفعالات السلبية نتيجة لذلك الشرود فإنها على أقل تقدير تُعيق تحقيق الهدف ممّا تقوم به. وكذلك للمسبحة فوائد في جلب الوعي تجاه عبادة الخالق واللجوء له والاستعانة به، ولكن استخدامها أثناء القيام بالأمور الحياتية إمّا أن يعيق تحقيقها وإما أن تصبح عادة إجرائية غير واعية لا يُحقّق الهدف منها.
الآن، وفي ضوء ما سبق من تمارين الممارسة الرسمية وخصوصاً تمارين المراقبة المفتوحة (اليقظة بحد ذاتها)، يستجلب الوعي بالتشتت والشرود اللاإرادي وتقبّله استشعار العطف واللطف الذاتيين، وذلك من أجل التدريب على صفاء الذهون والنوايا من جهة ولإبعاد النقد الذاتي عن الحضور إلى الذهن من جهة أخرى. وعلى سبيل المثال فإن العطف الذاتي كأسلوب تعامل إيجابي مع الذات أظهر نجاعةً أكبر من النقد الذاتي كأسلوب حل مشكلات الذات، فأشار الباحثون بورز وكوستنر وزورف (Powers, Koestner & Zuroff, 2007) في ورقة لهم إلى أنّ الناقدين لأنفسهم ذوي دافعية ذاتية أقل من الأفراد الآخرين وأنّ أهدافهم ترتبط مع اهتماماتهم ومقاصد حياتهم بصورة أقل كذلك، كما أن النقد الذاتي يرتبط ارتبطاً سالباً بالتقدّم نحو تحقيق الهدف من جهة ويرتبط ارتباطاً موجباً بالمماطلة من جهة أخرى. وبالرغم من علاقة النقد الذاتي الموجبة بالتأمّل ومراجعة الذات كما بيّنت الورقة الدراسة السابقة، إلّا أن دراسة نيف وكوستيجان (Neff & Costigan, 2014) أشارت إلى أن العطف الذاتي كأسلوب للتأمّل الذاتي هو أحد أهم مصادر الهناء الذاتي لما له من أثر على العناية الجيدة بالنفس وأيضاً التعامل الحسن مع الآخرين ممّا يُحقق ما يُسمى السعادة المعنوية.
هناك العديد من التمارين المعنية باستشعار العطف واللطف الذاتيين سيتم تقديمها لاحقاً في بابي العلاقات والإنجاز، ولكن يُجدر الذكر هنا أن استشعار العطف واللطف الذاتيين عند تقبّل شرود الذهن في تطبيق التمارين السابقة تُعنى بتحويل تمارين المراقبة المفتوحة (اليقظة بحد ذاتها) إلى تمارين استشعار العطف واللطف الذاتيين، وتُتاح الفرصة هنا أيضاً لتقديم تمرين تأمّل “الابتسامة” لما لها من تأثير على الانخراط والوعي واليقظة.
نشاط (4-6): تمرين تأمّل “الابتسامة”
خلال تطبيقك لأي تمرين من تمارين نشاط (4-5) السابق، وعند الوعي بشرود ذهنك، أعط نفسك خمسة دقائق للقيام بما يلي:
- تنفس ووجّه انتباهك بتركيز على الشهيق وبرودته والزفير ودفئه وكذلك مدى عمقهما وسرعتهما مع كل نفس لمدة دقيقتين أو أكثر.
- إذا تشتت ذهنك، لا بأس، ولكن عد لوعيك الآن.
- ابتسم كابتسامة طفل مسرور، وتلمّس عضلات وجنتيك، فإنها تُرسل إشارات لدماغك تُخبره بأن كل شيء على ما يُرام.
- لاحظ دماغك! فإنه يرسل الإشارات لوقف استجابات الكر-و-الفر، وتهدّئ من الغدة الكظرية وافرازات الأدرنالين والكورتيزول.
- ابتسم! وعد لما تقوم به مُبتسماً.
ثانياً: الممارسة غير الرسمية
يعود تطبيق اليقظة في الممارسة غير الرسمية إلى تركيز الانتباه إلى ما يقوم به الأفراد في حياتهم اليومية كالوعي بعملية الأكل (أخذ اللقمة… المضغ… تذوق الطعم… البلع…) في لحظات تناول الطعام واستشعار الخطوات والعمليات الحركية (رفع القدم… تقدّم القدم… وضع القدم…) في لحظات ممارسة المشي. وهذا قد يبدو خارجياً كالفيلم المعروض بالعرض البطيء، ويبدو داخلياً كالملاحظة الصامتة لكل حركة يقوم بها الفرد. لذا يشعر الأفراد بالوعي التام بما يقومون به والمتعة المترتبة عنه، وبذلك يكون هناك ارتباط واعي بين ما يقوم به الجسد، ويدركه العقل، ويشعر به الفؤاد. ويُجدر الذكر هنا أنه وفي ضوء المقال السابق (الانخراط والوعي) وفيما يحدث في أدمغتنا أن الذاكرة الإجرائية التي تشمل كل ما اعتدنا على القيام به من عمليات إجرائية ذاكرة باطنة غير واعية، وذلك يدعو إلى استجرار استجابات وأفعال إجرائية غير واعية. لذا يتحتم على الأفراد من أجل جلب الوعي الحرص على تركيز الانتباه لتحقيق الهدف من العملية الإجرائية من جهة وتغيير بعض الخطوات المعتاد عليها لإعادة تركيز الانتباه نحو الأفعال الصغيرة من أجل تجنب استرجاع الحركات التلقائية المعتادة عند القيام بمجمل الإجراء من جهة أخرى، هذا بالإضافة إلى الانصراف عن المشتّتات التي يحول بين الوعي بالإجراء والقيام به.
وعلى سبيل المثال، عند تناول الطعام بصورة يقظة يُجدر توجيه الهدف نحو إشباع الحاجة من الطعام وذلك بأخذ لقمة ومضغها وتذوق طعمها وبلعها، ويُجدر الحرص على تقليل الحديث على الطعام أو حتى التوقف عنه أو الحد من أي مشتّتات أخرى كمشاهدة التلفاز أو النظر في الجوال أو غيرها. ومن الباعث على جلب الانتباه أكثر لمائدة الطعام وتناوله خصوصاً في المراحل البدائية من الاعتياد على تناول الطعام بصورة يقظة، يُمكن تغيير بعض المثيرات الحسية لحاسة التذوق كزيادة أو تقليل ما هو مالح، أو حامض، أو حار، أو مُرّ، أو حلو.
الشكل (4-3): من أشكال أفعال اليقظة اليومية
نشاط (4-7): اجعل يومك يقظاً
تأمّل الأفعال اليومية التي تقوم بها، كيف يُمكنك جعل كل منها أكثر يقظةً؟ خطّط لجعل كل منها أكثر يقظةً حيث يُمكنك الاستعانة بالصيغة اللغوية الآتية خلال تصميمك لخطتك العملية:
سأقوم بـ زيادة/ تقليل ……………………………………………..،
خلال الفترة الزمنية الممتدة من ……………… إلى ………………،
وذلك من خلال الأفعال الآتية:
أهمية اليقظة
في ضوء المقال السابق حول الانخراط والمقال الحالي حول اليقظة، يُمكن الخلوص إلى أن لليقظة كل الأهمية في تقليل أثر الضغوط وغيرها من الأمور السلبية التي يُعاني منها الأفراد في المواقف الضاغطة والصادمة، كما وتُسهم في زيادة قدرة الأفراد على ملاحظة وتقدير الأمور الإيجابية في حياتهم، وكذلك تحسين كفاءة أداء الأفراد لوظائفهم في مختلف السياقات التي يعيشون فيها. وذلك لأن اليقظة تتلافى كل من الطيار الآلي، وتعدّد المهام، وآلية الكر-و-الفر، والذهن الشارد الذي تُديره شبكة الوضع الاعتيادي للدماغ، وتزيد من قوة شبكات الوعي الدماغية بمجريات الحياة وبالتالي جلب الوعي يحد من التشتّت والانجرار وراء الضغوط بالاستفادة من الخصائص النفسية العصبية الآتية:
- الوعي (قوة الفيتو): يأخذ الخيار بأن يستجيب أو لا يستجيب لإيعاز الدماغ، ويُعطي العقل القرار بالتوجه نحو تحقيق الأهداف المرغوبة والعمل على إبعاد و/أو تجاوز “رسائل الدماغ الخداع” بما فيها من أفكار مشتتة أو مغلوطة أو غير نافعة تُعيق الفرد من تحقيق أهدافه ونواياه منها
- المرونة العصبية (قانون هيب): يذكّر بأن الخلايا العصبية التي تعمل معاً، تهمد معاً.
- النفس الحقيقية (المحامي الحكيم): يلفت انتباه العقل أن لديه القرار بالتفكير، وفهم رسائل الدماغ الخداعة، وفهم طبيعة الأنماط الهدامة وغير الصحية، وفهم طبيعة الاستجابات السلوكية والعقلية والانفعالية التلقائية لمثل هذه الأنماط، وذلك من أجل تغييرها واستبدالها بأنماط بنّاءة وصحية
- أثر زينو الكمي (التركيز): يُتيح للدماغ تشكيل أنماط عصبية جديدة بالتكرار، أي أن ما يعيه الفرد ويركّز عليه يُصبح جزءً منه.
ومن الناحية النفسية فقد حرّر فابريزيو ديدونا (Didonna, 2009) مجموعة كبيرة من الأوراق العلمية التي تُبيّن أهمية اليقظة من النواحي النفسية تحت عنوان “الدليل العلاجي لليقظة” بمباركة من جون كابات-زين وذلك بكتابته للتمهيد. وقد تناول الدليل أوراقاً متعدّدة المجالات فمنها ما هو في توضيح الإطار المفاهيمي لليقظة وتمارين التأمّل، ومنها ما هو في أهمية اليقظة في التطبيقات العلاجية عامّة وفي مواجهة العديد من الاضطرابات على وجه الخصوص، وبعضها الآخر في أهمية اليقظة باستهدافها لبعض المجتمعات الدراسية المختلفة من أطفال وبالغين وكبار السن.
نشاط (4-8): ابحث عن فوائد الانخراط في السياق الذي يُناسبك
مُنذ بدء الألفية الجديدة تزايد الاهتمام البحثي والتجريبي في مختلف السياقات على مستوى البيت والعمل والدراسة. ابحث عن أثر الانخراط و/أو اليقظة و/أو تمارين التأمّل في زيادة مستوى التركيز المُستدام، وتقليل مستوى الضغوط ضمن السياق الذي يُناسبك ثم شاركنا أبرز ما توصلت إليه من خلال التعليقات.
ملاحظة: للمزيد من التمارين والتدريبات، يُمكنك الرجوع إلى موقع جون كابات-زين في تمارين اليقظة.
الرابط: https://www.mindfulnesscds.com/
المراجع:
Brown, K. W., & Ryan, R. M. (2003). The benefits of being present: The role of mindfulness in psychological well-being. Journal of Personality and Social Psychology, 84, 822–848
Didonna, F. (2009). Clinical handbook of mindfulness. New York: Springer
Germer, C. K. (2013). Mindfulness: What is it? What does it matter? In Germer, C. K., Siegel, R. D., & P. R. Fulton (Eds.), Mindfulness and psychotherapy (3–35). New York: Guilford Press
Kabat-Zinn, J. (1990). Full catastrophe living: Using the wisdom of your body and mind to face stress, pain, and illness. New York, NY: Dell
Mindful: Taking time for what it matters (2014). Get a special glimpse of mindful. Special free online issue: https://www.mindful.org/wp-content/uploads/Mindful_freemium.pdf
Neff, K. D., & Costigan, A. P. (2014). Self-compassion, wellbeing, and happiness. Psychologie in Österreich, 114-117
Powers, T. A., Koestner, R., & Zuroff, D. C. (2007). Self-criticism, goal motivation, and goal progress. Journal of Social and Clinical Psychology, 26, 826–840.
Shapiro, S. L., Carlson, L. E., Astin, J. A., & Freedman, B. (2006). Mechanisms of mindfulness. Journal of Clinical Psychology, 62, 373–386.
ملاحظة: راجع المصطلحات بالإنجليزية 4
رأي واحد على “ممارسة اليقظة والتأمّل”