يتناول هذا الباب مفهوم الانخراط والوعي وعملياتهما وأهميتهما في بناء حياة أكثر إيجابية. فقد يتبادر إلى الذهن تساؤلات حول الغرض منهما وماهية علاقتهما بالإيجابية، وقد تتلخص الإجابات عن هذه التساؤلات في أن الانخراط والوعي عموماً واليقظة على وجه التحديد تُسهم في التقليل من أثر الضغوط وغيرها من الأمور السلبية التي يُعاني منها الأفراد في المواقف الضاغطة والصادمة، كما وتُسهم في زيادة قدرة الأفراد على ملاحظة وتقدير الأمور الإيجابية في حياتهم، وكذلك تحسين كفاءة أداء الأفراد لوظائفهم في مختلف السياقات التي يعيشون فيها.
نشاط (4-1): معنى الانخراط
تأمّل مواقف حياتك اليومية في الفترة الماضية من الزمن (خلال الأسبوع الماضي مثلاً)، ثم اجب عن الأسئلة الآتية:
- كم مرة تشعر بأنك منخرطاً ومنغمساً فيما تقوم به؟
- إلى أي مدى تشعر بأنك مهتماً بالأمور من حولك ومتحمّساً لها؟
- كم مرّة تفقد شعورك بالوقت وأنت تقوم بأعمالك التي تستمتع بها؟
الآن، صف حياتك وطبيعة شعورك نحوها فيما لو زادت مرات انخراطك فيما تقوم به، واتسع مدى اهتمامك وحماسك نحو الأمور، وزادت مرات فقدانك للشعور بالزمن من شدة متعتك لما تقوم به.
لقد أشارت جولي بوتلر ومارغريت كيرن (Butler & Kern, 2016) إلى أن معنى الانخراط في يتلخص الإجابة عن أسئلة النشاط (4-1) الثلاثة السابقة ويكون في أوجه عند حالة “التدفق الذهني” عندما يفقد الفرد شعوره بالزمن من شدة شعوره بمتعة ما يقوم به، وذلك في ضوء ما وضعه سيليجمان وسكزمنتهاي عند تأسيس علم النفس الإيجابي. وقد أكّدت دراستهما أن الانخراط كغيره من عناصر نظرية العافية ضمن نموذج (PERMA) يُعد أحد الركائز الأساسية في تحقيق حياة الوعي وبالتالي الأداء الأفضل للأفراد و”الهناء”. وضمن عمل ضخم للحكومة البريطانية لدراسة العافية عالمياً، نشر فريق العمل (Aked, Marks, Cordon, & Thompson, 2008) تقريراً يُوجز أن هناك خمس طرق تقود إلى العافية بالاعتماد على دلائل تجريبية عالمية تمت صياغتها على شكل نصائح، وقد تم وضع اليقظة ضمن نصيحة “تيقّظ” فإن جلب الوعي لما تقوم به هنا والآن وتأملك في مواقف حياتك وانفعالاتك تجاهها يزيد من تقديرك لما حولك عموماً وما يهمّك فعلاً على وجه الخصوص، لذا لاحظ وركز انتباهك ووجّه فضولك نحو ما تشعر به من حولك وفي داخلك، وعش اللحظة وتمتّع في كل ما هو جميل. (للمزيد من التفاصيل اقرأ مقال العافية، عناصرها، والطرق المؤدية لها)
كما وفي ضوء نظرية التوسيع والبناء لباربرا فريدريكسون (Fredrickson, 2013)، يُعد التكيف المتعي للأمور الإيجابية (أي الاعتياد على الأمور الجيدة والتعامل معها بطريقة غير واعية) والتحيّز السلبي للأمور السلبية (أي استشعار المواقف السلبية والانغماس فيما يترتب عنها أفكار وانفعالات) من أبرز المخاطر على البيئة الانفعالية الهنيئة للأفراد. وهنا يلعب الانخراط دوراً بارزاً في تركيز الانتباه وتوجيه الوعي لتقدير ما هو إيجابي من جهة، وحصر وتقليل ما هو سلبي إلى أقل قدر ممكن من جهة أخرى. لذا يُساعد الانخراط على تقليل الانفعالات السلبية، وزيادة الانفعالات الإيجابية التي تُعد المحركات الصغيرة لتوسيع الوعي وبناء المصادر العقلية والنفسية والجسدية والاجتماعية. ويُساعد الانخراط على توسيع الوعي من خلال الانخراط في لحظات الإيجابية بأكبر قدر ممكن، والنظر إلى الصورة الأكبر بدلاً من حصر مواقف الحياة عند التفاصيل الصغيرة السلبية، وكذلك يقود إلى الاستعاضة الإيجابية بدلاُ من التحيّز السلبي في مختلف المواقف. وبالتالي يستطيع الفرد بذلك بناء المصادر المتينة والتي يُعد من أبرزها المصادر العقلية والتي تُعد اليقظة من أبرز أشكالها. (للمزيد من التفاصيل اقرأ مقال الانفعالات الإيجابية محركات صغيرة)
لمحة عمّا يحدث في عقولنا وأدمغتنا
منذ وضع أتكنسون وشيفرين (Atkinson & Shiffrin, 1968) نموذج معالجة المعلومات في الذاكرة الإنسانية الذي لا يزال نموذجاً معتمداً وسهلاً لفهم علم النفس المعرفي عموماً والإدراك والذاكرة على وجه التحديد، أُجريت أعداد ضخمة من الدراسات العلمية النفسية والعصبية لفهم العقل والدماغ وماهية العلاقة بينهما ودورهما بالتالي في فهم السلوك الإنساني بشقيه العقلي الباطن والفعلي الظاهر. وفي ضوء هذا النموذج الذي يتلخص في كيفية إدراك عالمنا الداخلي والخارجي وكيفية الاحتفاظ بذكرياته، هناك ثلاثة أنواع رئيسية للذاكرة أوّلها الذاكرة الحسية التي تتعامل مع المدخلات الحسية التي يذهب غالبيتها العظمى طي النسيان، إلا إذا قام الأفراد بالانتباه لها فإنه ينقلها إلى الذاكرة العاملة (قصيرة المدى) التي تعمل بجد من خلال التدريب على محتوى المعلومات وتحليلها حسب خصائصها ووظائفها لنقلها إلى الذاكرة طويلة المدى، ولكن هذا لن يحدث إن لم يتم ذلك العمل في الذاكرة العاملة بل ستذهب المعلومات إلى طي النسيان أيضاً.
كما وفي ضوء ما توصل إليه علم النفس وحسب المفاهيم المحدّثة في قاموس أكسفورد لعلم النفس (Colman, 2009)، تم توضيح بعض الأمور المتعلقة بذاكرتين قويتين راسختين داخل الذاكرة طويلة المدى ضمن ما يُسمّى السيطرة التكيّفية للأفكار (ACT) وهما: الأولى هي الذاكرة الصريحة (الظاهرة) التي تأخذ من “الفص الصدغي” وخصوصاً “قرن عمون” مكاناً لها في الدماغ، وتضم الذاكرة العرضية التي تشمل ما تم إدراكه والعمل على تحليله ضمن أحداث الحياة المختلفة، والذاكرة الدلالية التي تشمل المفاهيم والحقائق التي تم العمل على فهم معانيها ودلالتها بعد الكثير من الجهد الذهني. والثانية هي الذاكرة الإجرائية (الباطنة أو غير الواعية) التي يتولى أمرها “المخيخ” من الدماغ، فقد تم بناءها بعد عملية تعلّم طويلة تخلّلها تكرارات كثيرة من التجارب والتمارين جعلت الاستجابات للمثيرات أكثر سرعة ومهارة دون اللجوء إلى الخوض في فهم المثير للاستجابة له، وذلك ممّا يجعل الاستجابات الإجرائية للمثيرات المعتادة لا واعية.
الشكل (4-1): نموذج معالجة المعلومات (Lutz & Huitt, 2003)*
* نموذج معالجة المعلومات لأتكنسون وشيفرين (Atkinson & Shiffrin) عام 1968، في ضوء تطوير كريك ولوكارت (Craik & Lockart) عام 1972، وباديلي وهيتش (Baddeley & Hitch) عام 1974، وتوضيح لاتز وهويت (Lutz & Huitt) عام 2003.
ومن جهة أخرى أشار (Goldstein, 2010) إلى أن هناك منحى يُسمّى بـ “الروابط العصبية للوعي” يشمل أعداد كبيرة من الدراسات والأبحاث حول دراسة وجهين رئيسيين لما يُسمى بـ “مشكلة الوعي” (مشكلة العقل-الجسم). يتناول الوجه الأول “مشكلة الوعي السهلة” المعنية بدراسة الروابط بين الاستجابات الفيسيولوجية والوعي (الخبرة) مثل إدراك وتمييز الألوان أو الوجوه، ويتناول الوجه الآخر “مشكلة الوعي الصعبة” المعنية بتحديد العمليات الفيسيولوجية التي تسبب الوعي أو الخبرة وكيفية عملها كتحديد علاقة السبب والنتيجة أو كيفية انتقال أيونات الصوديوم أو البوتاسيوم في أغشية الأعصاب لتسبب الوعي باللون الأحمر مثلاً. وبناءً على هذا العمل الضخم لحل وجهي مشكلة الوعي وخصوصاً السهل منه، سيتم تناول فيسيولوجيا العمليات العقلية لا سيّما الإدراك والذاكرة بصورة موجزة ومُبسّطة.
يتضّح في ضوء الأسس البيولوجية للدماغ أن العمليات العقلية بما فيها تشكيل الذاكرة بما فيها من تبعات انفعالية ترتبط بتغيرات حويصلات الخلايا العصبية التي تقوم معاً (كيميائياً عن طريق النواقل العصبية وفيزيائياً عن طريق الشحنات الكهربائية) بتقوية وتحسين التواصل بين شبكات شجيرات ومحاور الخلايا العصبية في الدماغ. وينتج عن هذه التغيرات ظاهرتين دماغيتين هما: زيادة الفعالية طويلة المدى وهي زيادة نمط الأنشطة الحويصلية لفعالية نقل الإشارات بين الخلايا العصبية، والهُمود طويل المدى وهو إضعاف نمط المثيرات الكهربائية للروابط الحويصلية. ومن هنا يُجدر الإشارة إلى أن طبيعة الوعي والخبرة تُسهم في تشكيل الروابط العصبية وزيادة فعاليتها أو همودها (Bernstein & Nash, 2008).
وعلى سبيل المثال يعمل المخيخ على تشكيل وتخزين الاستجابات الإجرائية “المشروطة” وتلك المتعلقة بالمخاوف حتى دون الحاجة إلى استرجاع الموقف المثير “المخيف” الذي كان السبب تخزين الاستجابة الإجرائية “الخائفة” وذلك بالتشارك مع النوى القاعدية (الملاصقة للمهاد) التي تًدير أمور التحكم وإدارة الحركات الإجرائية، وتسهم في تشكيل الذاكرة الإجرائية والمهارات الحركية. ومن جهة أخرى يُدير الفص الصدغي أمر السمعيات، ويُدير الفص الجداري أمر الملموسات والحرارة والألم، ويُدير الفص القذالي أمر الرؤى. كما يُيسر بعدها قرن عمون عمليات ترميز وتخزين الأحداث والخبرات والمفاهيم والحقائق للذاكرة الصريحة، وبمساعدة الجسمين الحلميين تًدار عملية الإدراك، بينما تًدير الفصوص الأمامية والصدغية والقشرة الأمامية من الدماغ عمليات التعلّم وتكوين المنظورات والاسترجاع وإدارة وتنظيم الاستجابات الانفعالية، وفي حالة الانفعالات والضغوط الناتجة عن الوعي والخبرة يُثير قرن عمون الغدة الكظرية لإفراز الكورتيزول والأدرنالين/الإيبنفرين (ممّا يرفع ضغط الدم وسرعته وقوته) ممّا يُحفّز اللوزة الدماغية التي تُدير الاستجابات الانفعالية بما فيها تلك الناتجة عن الخوف وتُدير عمليات الطوارئ وتُعطي الإشارة للنوى القاعدية أن هناك أمراً مهماً وطارئاً (مّما يُقدّم الإيعاز لآلية الكر والفر من أجل المحافظة على البقاء) (Goldstein, 2010; Kalat, 2009; Mayer & DeWall, 2016).
الدروس المستفادة في نقطتين!
أولاً: إيقاف الطيار الآلي وإدارة تعدد المهام
يُستخدم مفهوم “الطيار الآلي” في كثير من الأحيان في مجال علم النفس لتسهيل عملية تفسير السلوكين العقلي والفعلي اللاواعيين. وبناءً على ما سبق من تفسير فيسيولوجي للعمليات العقلية والذاكرة قد يتبيّن أن الأفراد بعد اكتساب العادات الإجرائية الفعلية والعقلية يميلون إلى القيام بها دون وعي استناداً إلى ذاكرتهم الإجرائية القوية ضمن الذاكرة طويلة المدى في العقل، وبناءً على زيادة فعالية الروابط العصبية طويلة المدى في الدماغ، وذلك ممّا يُسهل عليهم القيام بعدة مهام في آن معاً. ولكن دعونا نتأمّل الأسئلة الآتية: كم من المرات دعانا الطيار الآلي إلى تعبئة “الفراغات” باستنتاجات تبيّنت لنا لاحقاً أنها خاطئة، أو إلى عدم المحاولة بحجة تجربة فشل واحدة، أو إلى الغرق في الأحلام والتوقعات دون أخذ الخطوة الأولى من مشوار الألف ميل؟؟ وكم من المرات دعانا تعدد المهام إلى الغفلة عن إغلاق الأبواب أو النوافذ في البيت، أو عن إنجاز بعض الأعمال في العمل، أو عن الشواخص على الطريق، أو عن فهم ما قاله المعلم في المدرسة؟؟
في ضوء ما أشار إليه كريستوفر جيرمر (Germer, 2013) بناءً على الأدب النفسي والدراسات السابقة، يظهر جليّاً أن تبنّي اليقظة بما فيها من وعي وانتباه يدعو إلى ما هو عكس “تشغيل الطيار الآلي” وعكس “أحلام اليقظة.” قد تقبل اليقظة بأن تذهب بنا أذهاننا إلى تذكّر مفهوماً، أو حدثاً، أو إجراءً، أو حكماً من سياق خبراتنا السابقة، ولكنها تدعونا إلى إعادة توجيه انتباهنا إلى الخبرة الحالية وتقبلها دون شروط (من أجل تخزينها كما هي دون تدخل تحيّزاتنا المعرفية)، كما وأنها تُعيل الاهتمام أيضاً إلى تحقيق الغاية “الآنية” دون إصدار الأحكام. وهذا بالتالي يخرجنا من قفص الاشتراطات بين المثيرات الحسية المعتادة والردود التلقائية التي أصبحت استجابات إجرائية “لا واعية.”
ثانياً: إدارة آلية الكر-و-الفر
في ضوء قاموس أكسفورد لعلم النفس (Colman, 2009)، يُستخدم مفهوم “آلية الكر والفر” في فيسيولوجيا علم النفس للتعبير المجازي عن مجموعة الاستجابات الفيسيولوجية للمواقف التي تثير الشعور بالألم أو الخوف أو الغضب والتي تظهر أعراضها على الجسد بارتفاع ضغط الدم وسرعته وقوته والتعرّق وسرعة التنفس وغيرها، وسُميت الآلية بالكر والفر لأن الاستجابة السلوكية للأفراد نتيجة الإثارة الانفعالية تتلخص إما بالكر (أي القتال والهجوم) أو الفر (أي الهروب). ويتلخص تفسيرها المُبسّط في عملية تُسمى بـ “شلال الدفاع” نتيجة مثل هذه الإثارة حيث يكون الكر أو الفر استجابات تلقائية، بينما تكون استجابة الجمود قيد الانتظار على النقيض ممّا يحصل عند الحيوانات حيث أنهم لا يمتلكون إلا استجابة الكر أو الفر. ثم بالاختيار يُمكن للإنسان اللجوء إلى استجابة الجمود عندما لا يرى نفعاً من استجابتي الكر والفر وما قد يتبعهما من جزع وإغماء، وقد يصل إلى أداء دماغي-عقلي أفضل عندما يكتسب حالة من الهدوء وذلك يتطلب تغيير (تفعيل و/أو تثبيط) أنماط الأنشطة الحويصلية المستخدمة في نقل الإشارات بين الخلايا العصبية في عدّة أماكن من الدماغ وأبرزها اللوزة الدماغية. ونتيجة لهذا التغيير يُمكن للأفراد كسر الأنماط العصبية المتعلقة بالمعاناة بالبداية، ثم بناء أنماط عصبية بديلة تُعنى بالتكيف وإدارة أفضل للاستجابات (Kozlowska, Walker, McLean, & Carrive, 2015).
درس إضافي: نحن لسنا أدمغتنا فقط!
يُوضّح جيفري شوارتز وريبيكا جلادينغ (Schwartz & Gladding, 2012) في ضوء علم الأعصاب أنه وبالرغم من الدراسات والأبحاث المُكثفة لما يزيد عن 25 سنة لفهم ماهية الدماغ وعملياته المعقدة، يُعد العقل أكبر من مجرد عملية سلبية تستجيب لعمليات الدماغ الفيسيولوجية غير الواعية، بل هي عملية نشطة معنية بوضع خيارات واتخاذ قرارات واعية تُوجّه السلوك العقلي الباطن والفعلي الظاهر. وهذا يُوضّح أبرز المفاهيم المثيرة للاهتمام حالياً في علم الأعصاب وهو “المرونة العصبية” التي تقوم على قانون هيب “الخلايا العصبية التي تعمل معاً، تهمد معاً”. أي أن مثلاً يُمكن لأنماط الأنشطة الحويصلية التي تعمل معاً في نقل الإشارات بين الخلايا العصبية في عدّة أماكن من الدماغ بما فيها اللوزة الدماغية عند التوتر أن تهمد معاً في حال اكتسبت تلك المرونة العصبية لتغييرها.
كما يُشير شوارتز وجلادينغ (Schwartz & Gladding, 2012) بالمختصر إلى أن ما يُسمى بـ “النفس الحقيقية” تعمل بطريقتين نشطتين تُنظّم طبيعة العمليات بين الدماغ والعقل إحداهما تُعطي العقل الوعي (حق الفيتو) بأخذ الخيار بأن يستجيب أو لا يستجيب لإيعاز الدماغ، والأخرى تُعطي العقل القرار بالتوجه نحو تحقيق الأهداف المرغوبة والعمل على إبعاد و/أو تجاوز “رسائل الدماغ الخداع” بما فيها من أفكار مشتتة أو مغلوطة أو غير نافعة تُعيق الفرد من تحقيق أهدافه ونواياه منها. كما أشارا إلى أن “المحامي الحكيم” يلفت انتباه العقل أن لديه القرار بالتفكير، وفهم رسائل الدماغ الخداعة، وفهم طبيعة الأنماط الهدامة وغير الصحية، وفهم طبيعة الاستجابات السلوكية والعقلية والانفعالية التلقائية لمثل هذه الأنماط، وذلك من أجل تغييرها واستبدالها بأنماط بنّاءة وصحية وذلك يتمثل في “أثر زينو الكمي” الذي يُتيح للدماغ تشكيل أنماط عصبية جديدة بالتكرار. لذا فإن المحامي الحكيم للعقل يدعو إلى ما هو أفضل للفرد، ويُشجع النفس الحقيقية على أخذ القرارات العقلانية لما فيه مصلحة شاملة للعقل والدماغ وعلى المدى الطويل.
ومن هنا يبيّن شوارتز وجلادينغ (Schwartz & Gladding, 2012) أن اليقظة هي مفتاح التغيير نحو خلق أفضل علاقة صحية بين الدماغ والعقل. فاليقظة التي تُعد حالة عقلية جسدية تتضمن جهداً يدعو إلى أمرين رئيسيين: أولاهما الوعي بلحظات هنا والآن وتركيز الانتباه الموجّه على ما يجري، والأمر الآخر قبول ما يجري كما هو. فإن كان هناك حكماً على ما يجري في ضوء عادات العقل والدماغ والخبرات السابقة، يتدخل التركيز ليعيد الأفراد إلى العودة لوعيهم بسرعة، إذ أن الحكم على الأمور يقود إلى الخوض فيها وبالتالي انصراف الذهن عمّا يجري. فبالرغم من مدى صحة الحكم على الأمور إلّا أنها لا تُفيد الفرد لتحقيق أهدافه بل على العكس قد تُعيقه عن ذلك. لذا تُعد اليقظة من أهم ما يدعم إمكاناتنا العقلية التي تتلخص بالآتي: الوعي (حق الفيتو) بأخذ الخيار بأن يستجيب أو لا يستجيب لإيعاز الدماغ، وقانون هيب الذي يذكر بأن الخلايا العصبية التي تعمل معاً، تهمد معاً، والنفس الحقيقية ومحاميها الحكيم الذي يذكر بأخذ الخيارات والقرارات العقلانية لما فيه مصلحة شاملة للعقل والدماغ وعلى المدى الطويل، وأخيراً وليس آخراً أثر زينو الكمي الذي يذكر بأن الدماغ له القدرة على تشكيل أنماط عصبية جديدة بالتكرار.
في ضوء دراسة هاسنكامب وآخرين (Hasenkamp et al., 2012) بناءً على ملاحظاتهم باستخدام مسح صور الرنين المغناطيسي الوظيفية للدماغ، هنالك نموذجاً يقترض وجود أربعة فواصل دماغية-عقلية ضمن دورة معرفية تُساعد الأفراد على اكتساب وعي مُستدام، وهي: الذهن الشارد (الذي طالما يأخذ شبكة الوضع الاعتيادي مكاناً له في الدماغ)، والوعي بالذهن الشارد (الذي يأخذ شبكة البروز مكاناً له في الدماغ)، وتحويل الانتباه (الذي يأخذ الشبكة التنفيذية مكاناً له في الدماغ)، والوعي المستدام (الذي يأخذ أيضاً الشبكة التنفيذية مكاناً له في الدماغ، ولكن مع بعض التغيير بالمناطق العصبية).
الشكل (4-2): فرضية شبكة الوضع الاعتيادي مقابل شبكات الانتباه (Hasenkamp et al., 2012)
وتُشير دراسة قدّمها برور وآخرون (Brewer, et al., 2011) باختصار إلى أن تمارين التأمّل بما فيها تلك التي تدعو إلى التركيز تحد من عمل الذهن الشارد ومواطنه في شبكة الوضع الاعتيادي في الدماغ، كما وتزيد من الترابط العصبي في مناطق الدماغ المسؤولة عن المراقبة الذاتية والسيطرة المعرفية (العقلية).
وفي الختام يقدّم شوارتز وجلادينغ (Schwartz & Gladding, 2012) نموذجاً بعنوان “المرونة العصبية الموجهة ذاتياً” للتعامل مع الشبكات الدماغية عموماً وشبكة الوضع الاعتيادي على وجه الخصوص لما لها من دور في جلب “الذهن الشارد” الذي يستمع إلى رسائل الدماغ الخداع وغيره من الرسائل المشتّتة التي قد تبرز من شبكة الوضع الاعتيادي. وقد وضعا نموذج المرونة العصبية الموجهة ذاتياً في أربع خطوات هي:
- إعادة التسمية: تعريف الأفكار والمثيرات التطفلية على أنها مثيرات غير مريحة (اقبلها كما هي!).
- إعادة الصياغة: متابعة تعريفها على أنها لا تزال تزعجك (تذكر أنها رسائل الدماغ الخداع، فقد تقول لك أنها ليست أنت وإنما دماغك!).
- إعادة التركيز: إعادة توجيه الانتباه إلى أمر آخر (ركز وعيك على لحظات هنا والآن!).
- إعادة التقييم: إخراج هذه الأفكار والمثيرات من منظومة القيم (فهي مجرد رسائل من دماغك الخداع!).
نشاط (4-2): وجّه مرونتك العصبية
تأمّل مواقف حياتك اليومية في الفترة الماضية من الزمن (خلال الأسبوع الماضي مثلاً)، ثم اذكر أمراً واحداً شغل بالك كثيراً ودعاك للقلق بشأنه. ثم اتبع الخطوات الآتية:
- اقبل الأمر كما هو، ولكن أعد تسميته ليكون باعثاً على أفكار وانفعالات غير مريحة بدلاً من “مهم/عاجل” (تذكّر أنه مصدر لقلقك).
- قد يتبادر لك أنك اعتدت على التفكير بمثل هذه الأمور بهذه الطريقة، وإنك لست بقادر على تغييرها. لذا أعد صياغة هذا الأمر في ذهنك وذكّر نفسك بأنك لا تزال منزعجاً من الخوض فيه.
- أعد توجيه تركيزك نحو ما تقوم به هنا والآن من عمل بنّاء، أو نحو الأهداف التي ترغب بتحقيقها.
- قد يعود ذلك الأمر ليشغل ذهنك. لذا تذكّر أنه مجرد مشتت يعيقك عن تحقيق عملك البنّاء و/أو أهدافك المرجوة.
- كرّر الخطوات السابقة مع أي أمر قد يشغل ذهنك لمدة من الزمن (أسبوع مثلاً). ثم صف أداءك الذهني والفعلي في هذه الفترة.
المراجع:
Aked, J., Marks, N., Cordon, C., and Thompson, S. (2008). Five Ways to Well-being: A report presented to the Foresight project on communicating the evidence base for improving people’s well-being. London: NEF
Atkinson, R.C. & Shiffrin, R.M. (1968). “Chapter: Human memory: A proposed system and its control processes”. In Spence, K. W.; Spence, J.T. The psychology of learning and motivation. New York: Academic Press. pp. 89–195.
Bernstein, D. A., & Nash, P. W. (2008). Essentials of psychology (4th ed.). Boston: Cengage Learning
Brewer, J. A., Worhunsky, P. D., Gray, J. R., Tang, Y.-Y., Weber, J., & Kober, H. (2011). Meditation experience is associated with differences in default mode network activity and connectivity. Proceedings of the National Academy of Sciences (PNAS), USA, 108, 20254-20259.
Butler, J. & Kern, M. L. (2016). The PERMA-Profiler: A brief multidimensional measure of flourishing. International Journal of Wellbeing. 6(3). 1–48
Colman, A. (2009). A dictionary of psychology. Oxford: Oxford University Press
Fredrickson, B. L. (2013). Positive Emotions Broaden and Build. In Plant, A. & Devine, P. G. (Eds). Advances in Experimental Social Psychology, 47-53
Hasenkamp, W., Wilson-Mendenhall, C. D., Duncan, E., & Barsalou, L. W. (2012). Mind wandering and attention during focused meditation: A fine-grained temporal analysis of fluctuating cognitive states. Neuroimage, 59, 750–760.
Germer, C. K. (2013). Mindfulness: What is it? What does it matter? In Germer, C. K., Siegel, R. D., & P. R. Fulton (Eds.), Mindfulness and psychotherapy (pp. 3–35). New York: Guilford Press
Goldstein, E.B. (2010). Sensation and Perception. Belmont (8th ed.). CA: Thomson Wadsworth
Kalat, J.M. (2009). Biological Psychology (10th ed.). CA: Wadsworth
Kozlowska K., Walker P., McLean L., and Carrive P. (2015). Fear and the Defense Cascade: Clinical Implications and Management. Harvard Review of Psychiatry. 23(4). 263–287
Lutz, S., & Huitt, W. (2003). Information processing and memory: Theory and applications. Educational Psychology Interactive. Valdosta, GA: Valdosta State University
Mayer D.G. & DeWall, C.N. (2016). Exploring Psychology in Modules (8th ed.). New York: Worth Publishers
Schwartz, J.M. & Gladding, R. (2012). You Are Not Your Brain: The 4-Step Solution for Changing Bad Habits, Ending Unhealthy Thinking, and Taking Control of Your Life. New York: Avery
Seligman, M. E. P. (2011). Flourish: A Visionary New Understanding of Happiness and Well-being. NY: Free Press
ملاحظة: راجع المصطلحات بالإنجليزية 4
رأي واحد على “الانخراط والوعي”