انشغل علم النفس بصفة عامة في دراسة السلوك الإنساني وما وراءه من عمليات فيسيولوجية (جسمية) وعقلية (ذهنية) وانفعالات (مشاعر) وبيئة (ظروف مادية واجتماعية)، ومن أبرز التساؤلات التي طالما شغلت ذهن الاخصائي النفسي: “ما الخطأ؟” ليتم معالجته. لذا قد يرجع لذلك اهتمام غالبية فروع علم النفس وخصوصاً العلاجي بمساعدة الأفراد على الرجوع من الحالة السالبة إلى نقطة الصفر حيث لا يوجد اضطراب. وبالرغم من التوجّه الإيجابي للتنشئة الأسرية والتعليم والعمل في وضع رؤية يرتبط تحقيقها بتحقيق الأهداف تلو الأهداف لغايات رفع التحصيل، وتحسين الأداء، وزيادة الإنتاج، وتحسين الجودة إلى جانب تزويد القائمين عليها بالأدوات والمهارات لتحقيقها، إلّا أن اهتمام التربية البيتية أو المدرسية بتحسين التحصيل والأداء بصفة عامة قد يطغى على تنمية شخصية المواطن الصالح والمنتج والمبدع الذي تُنادي به الأنظمة التعليمية في شتى البلدان، وقد لا يزال اهتمام الموارد البشرية بإنجاز العاملين لعملهم غالباً لمجال الاهتمام بتنمية شخصية العامل المتقن والشغوف الذي يرغب بضمّه المؤسسات حول العالم.
ومع التطور العلمي والتكنولوجي إلى جانب المساهمات التي قدّمها علم النفس، أصبحت مؤسسات العلم والعمل تتبنى توجهات حديثة جعلتها أقرب للطابع الإنساني وأبعد عن الصفة المصنعية. فقد ازداد الاهتمام بالجوانب النفسية المتعلقة بهناء الأفراد الذاتي وازدهار المؤسسات. ومنذ تأسيسه كعلم تنعكس تطبيقاته في جميع المجالات، جاء علم النفس الإيجابي بهدف دراسة الهناء الشخصي والازدهار الإنساني، وكذلك فهم الانفعالات الإيجابية التي قد يُمكن تلخيصها في الرضا عن الماضي، والسعادة في الحاضر، والأمل في المستقبل (Salama-Younes, 2015). فاهتم بالسؤال: “ما الصائب؟” للبناء عليه والسير بأفضل ما يُمكن ضمن منهج قائم على القوى (دون الغفلة عن معالجة ما هو خاطئ).
نظرية المنظور الزمني
في ضوء تعريف سلامة يونس السابق لعلم النفس الإيجابي (Salama-Younes, 2015)، يتّضح جلياً أهمية الزمن الذي يطوي حياتنا بين طياته، وكذلك أهمية نظرتنا نحوه، فلا أجمل من أن نشعر بالرضا عن الماضي، والسعادة في الحاضر، والأمل في المستقبل! ومن هذا المنطلق يُجدر ذكر جهود فيليب زمباردو (Phillip Zimbardo) في دراسة علم نفس الزمن والمضامين الإيجابية المتضمنة فيه. وبالرغم من اهتمامات زمباردو البحثية المتعددة في علم النفس وأعماله التي تُقدّر بما يُقارب 400 عملاً امتدت منذ خمسينيات القرن الماضي حتى الآن، إلّا أنه استطاع إيجاد ما يُسمى بعلم نفس الزمن ووضع نظرية المنظور الزمني، وكذلك ساهم فيما يُسمّى بالمنظور الزمني المتّزن وتطبيقاته في العلاج النفسي بشكل عام وفي علاج اضطرابات ضغوط ما بعد الصدمة.
بدأ زمباردو رحلة بناء نظرية المنظور الزمني من خلال مقال نشره وزميله جونزاليز في مجلة علم النفس اليوم (Zimbardo & Gonzalez, 1984)، واستمرت دراساته لما يزيد على عقد من الزمن تُوّجت في وضع خمسة أبعاد رئيسية لمقياس المنظور الزمني هي: الماضي الإيجابي، والماضي السلبي، والحاضر المتعي، والحاضر الجبري، والمستقبل (Zimbardo & Boyd, 1999). منذ ذلك الحين، توالت التطوّرات على النظرية والمقياس. وفيما يتعلق بعلم النفس الإيجابي عملت بونيوِل وزمباردو (Boniwell & Zimbardo, 2004) على دراسة كيفية جعل المنظور الزمني مُتّزناً من أجل تحسين الوظائف الإنسانية لتكون على أفضل وجه ممكن، فأشارا هنا أن اكتساب منظور زمني مُتّزن يُحقّق أحد أهم متطلبات التعلّم التي يحتاجها الفرد لتحقيق حياة هنيئة ينعم بها.
وضمن الإطار العربي أشارت الدكتورة هالة رمضان (2015) إلى أن هناك علاقة موجبة تجمع بين المنظور الزمني المُتّزن وجودة الحياة بما فيها من رضا على الحياة في الماضي والحاضر والمستقبل. كما وأكّدت على أن للأمل والثقة والاتجاهات الإيجابية نحو المستقبل والعلاقات الاجتماعية والقيم الشخصية ارتباطاً موجباً بالمنظورات الزمنية الإيجابية كالماضي الإيجابي والحاضر المتعي وارتباطاً سالباً بالمنظورات الزمنية السلبية كالماضي السلبي والحاضر الجبري.
ومؤخراً قام ستولارسكي وفيولاين وفان بيك (Stolarski, Fieulaine, & van Beek, 2015) تشريفاً لفيليب زمباردو بتحرير مجموعة من المقالات العلمية حيث قدّموا في مقدّمتها ما توصلت إليه نظرية المنظور الزمني وأبعادها بعد التطوّرات التي استجدت عليها. فقد شمل المنظور الزمني نفس الأبعاد الخمسة السابقة بالإضافة إلى أربعة أبعاد أخرى هي: المستقبل المتسامي، والمستقبل السلبي، والمستقبل الإيجابي، والحاضر المُمتد، وذلك لإضفاء الاتّزان المراد على نظرية المنظور الزمني. ويُمثل الجدول الآتي نظرية المنظور الزمني وأبعادها التسعة في صورته الأخيرة:
الجدول (1-1): نظرية المنظور الزمني بأبعادها التسعة
نشاط (1-1): المنظور الزمني
تأمّل في أبعاد نظرية المنظور الزمني التسعة. ما المنظورات الزمنية التي تُسيطر على أفكارك وأفعالك؟ خطّط لتحقيق منظور زمني متّزن لحياتك. خلال تصميمك لخطتك العملية، يُمكنك الاستعانة بالصيغة اللغوية الآتية:
سأقوم بـ زيادة/ تقليل ……………………………………………..،
خلال الفترة الزمنية الممتدة من ……………… إلى ………………،
وذلك من خلال الأفعال الآتية:
1.
2.
3.
نشاط إضافي: يُمكنك الرجوع إلى الرابط الآتي الذي يُؤدّي إلى موقع “المفارقات الزمنية” لزمباردو وبويد والاطلاع على ما يقدمه من معلومات وأدوات يُمكنك الاستفادة منها: http://www.thetimeparadox.com
المراجع:
رمضان، هالة عبد اللطيف محمد (2015). علاقة المنظور الزمني للوقت ببعض سمات علم النفس الإيجابي لدى عينة من طلاب الجامعة. مجلة الإرشاد النفسي-مصر. 3(42). 45-100.
Boniwell, I. & Zimbardo, P. G. (2004). Balancing Time Perspective in Pursuit of Optimal Functioning. In Linley, P. A. & Joseph, S. (Eds.), Positive Psychology in Practice. Hoboken, NJ: Wiley.
Salama-Younes, M. (2015). Positive psychology: Applications, concepts and future perspectives in Arab countries. Middle East Journal of Positive Psychology, 1(1), 45-59
Stolarski, M., Fieulaine, N., and van Beek, W. (Eds.) (2015). Time Perspective Theory; Review, Research and Application. Switzerland: Springer
Zimbardo, P. G., and Boyd, J. N. (1999). Putting time in perspective: A valid, reliable Individual-differences metric. Journal of Personality and Social Psychology, 77, 1271-1288
Zimbardo, P. G., and Gonzalez, A. (1984, February). The Times of your Life. Psychology Today, 18, 54
ملاحظة: راجع المصطلحات بالإنجليزية 1
رأي واحد على “النفس والإيجابية والزمن”